أنس غراب
إعداد النّسخة الرّقميّة الأوّليّة

رسالة الكندي في اللّحون والنّغم

يعقوب بن إسحاق الكندي

  • المكتبة الوطنيّة - برلين (ألمانيا) : Wetzstein II 1240/424 و-31 ونسخة رقميّة

    جزء من النّصّ لا ينتمي إلى الكندي وهو منسوب إلى إقليدس. أنظر النّصّ « مختصر الموسيقى في تأليف النّغم وصنعة العود»

  • المكتبة العموميّة - مانيسا (تركيا) :  1705/7110 ظ-126 و

    حسب أحمد آتش، الورقات هي ١١٣ ب إلى ١٢٦ آ.

    • بداية النصّ : ظهر الله فهمك وكثر علمك وسدد امرك فهمت ما سألت من رسم قول
    • آخر النصّ : واخذها عنهم وتعلمها منهم نظرا واستماعا ابلغ واسرع واقرب الى الفهم منها من الكتاب

محتوى النصّ

  • [مقدّمة]
  • الفنّ الأوّل : [في تركيب العود وقسمة الدّساتين]
  • الفنّ الثّاني : في معرفة الأوتار والنّغم
  • الفنّ الثّالث : في رياضة اليدين لذلك

[مقدّمة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ

وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِالَلِّه

رِسَالَةُ الكِنْدِي فِي اللُّحُونِ وَالنَّغَمِ، أَلَّفَهَا لِأَحْمَدَ بْنُ المُعْتَصِمِ

طَهَّرَ اللَّهُ فَهْمَكَ، وَكَثَّرَ عِلْمَكَ، وَسَدَّدَ أَمْرَكَ.

فَهِمْتُ مَا سَأَلْتَ مِنْ رَسْمِ قَوْلٍ مُخْتَصَرٍ فِي آلَةِ الحُكَمَاءِ ذَاتِ الأَرْبَعَةِ الأَوْتَارِ المُسَمَّاةَ عُودًا لِتَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ تَرْكِيبِهَا وَتَأْلِيفِ نَغَمِهَا. وَجَمِيعُ مَا تَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْهَا. وَقَدْ رَسَمْتُ لَكَ مِنْ ذَلِكَ حَسْبَ الطَّاقَةِ عَلَى سَبِيلِ مَا أَلَّفَهُ الحُكَمَاءُ فِي كُتُبِ المُوسِيقَى، أَعْنِي تَأْلِيفَ الأَلْحَانِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

اعْلَمْ أَنَّ الكَلَامَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ فُنُونٍ :

الفَنُّ الأَوَّلُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ مَقَادِيرِ أَبْعَادِهَا فِي تَرْكِيبِهَا، أَعْنِي طُولَهَا وَعَرْضَهَا وَعُمُقَهَا مَعَ وُقُوعِ الأَوْتَارِ عَلَيْهَا وَتَرْكِيبِ الدَّسَاتِينِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يَجِبُ فِي مَوَاضِعِهَا وَكَمَالِ صَنْعَتِهَا.

أَمَّا الفَنُّ الثَّانِي فَمَعْرِفَةُ الأَوْتَارِ وَنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ وَمِقْدَارِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ وَمَعْرِفَةٍ كَمِّيَّةِ النَّغَمِ وَتَنَاسُبِ المُتَنَاسِبَةِ مِنْهَا وَائْتِلَافِهَا وَاخْتِلَافِهَا وَمَعْرِفَةِ المُذَكَّرَةِ مِنْهَا وَالمُؤَنَّثَةِ وَجَمِيعِ أَسْبَابِهَا مَعَ عِلَلِ جَمِيعِ ذَلِكَ وَمَعْرِفَةِ التَّسْوِيَةِ العُظْمَى وَالتَّسْوِيَاتِ البَاقِيَةِ المَعْلُومَةِ عِنْدَ الضُّرَّابِ.

وَأَمَّا الفَنُّ الثَّالِثُ فَمَعْرِفَةُ حَرَكَةِ الأَصَابِعِ عَلَى الدَّسَاتِينِ وَالأَوْتَارِ لِيَأْلَفَ ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَرْتَضِ فِي هَذِهِ الآلَةِ وَيَعْتَادَ أَنْ تَقَعَ أَصَابِعُ يَدِهِ اليُسْرَى فِي المَوَاضِعِ الوَاجِبَةِ لِكُلِّ اصْبِعٍ مِنْ كُلِّ دَسْتَانٍ مَعَ مُوَافَقَةِ اليُمْنَى فِي حَثِّهَا الأَوْتَارَ وَأَحْكَامِ الحَرَكَاتِ وَالمَقَاطِعِ، فَإِنَّ المُتَعَلِّمَ لِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ يَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :

أَوَّلُهَا المَعْرِفَةُ بِإِيقَاعِ مَا يُرِيدُ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ؛

وَالثَّانِي انْتِخَابُ النَّغَمِ الَّتِي تَلِيقُ بِذَلِكَ وَتَأْلِيفُهَا وَنَظْمُهَا عَلَى حَقِيقَةِ مَا يَجِبُ فِي الضَّرْبِ بِلَا زِيَادَةِ وَلَا نُقْصَانٍ؛

وَالثَّالِثُ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ عِنْدَ الوُقُوفِ عَلَيْهِ وَدَرْسِهِ لِيَكُونَ مَا يُنْتِجُهُ الفِكْرُ وَيُظْهِرُهُ التَّرَنُّمُ قَدْ يُكَوِّنُهُ العُودُ لِكَثْرَةِ الأُلْفِ وَجَوْدَةِ الرِّيَاضَةِ، فَكَانَتْ هُنَاكَ اليَدُ اليُمْنَى بِالإِيقَاعِ أَوْلَى، وَاليَدُ اليُسْرَى لِإِظْهَارِ النَّغَمِ وَتَفْصِيلُهَا وَتَأْلِيفُهَا أَوْلَى. فَأَمَّا مَنْ كَانَتْ لِيَدَيْهِ رِيَاضَةٌ وَأُلْفٌ لِلتَّنَقُّلِ عَلَى النَّغَمِ فَقَدْ يَلْحَقُ البَابَ الثَّالِثَ الَّذِي ذَكَرْنِا فَإِنَّمَا يُحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى مَعْرِفَةِ الإِيقَاعَاتِ وَتَأْلِيفِ النَّغَمِ عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِ.

وَهَذَانِ مُعَيَّنَانِ لَيْسَ لَهُمَا غَايَةٌ وَلَا يَصِيرَانِ إِلَى نِهَايَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الإِيقَاعَاتَ لَا تُحْصَى وَلَا يُحَاطُ بِهَا كَثْرَةً، لَا العَرَبِيَّةَ مِنْهَا وَلَا العَجَمِيَّةَ، فِي كُلِّ لِسَانٍ وَكُلِّ مَمْلَكَةٍ.

وَالنَّغَمُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الكَمِّيَّةِ فَلَيْسَ لِتَرْكِيبِهَا غَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ، فَيَجِبُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبْتَدِي بِاسْتِعْمَالِ العَادَةِ وَحِذْقِ اليَدَيْنِ وَالأَصَابِعِ بِالنُّقْلَةِ عَلَى النَّغَمِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الإِيقَاعَاتِ الكِبَارِ المَعْلُومَةِ عِنْدَ الحُذَّاقِ بِهَذِهِ الآلَةِ، فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَعْتَصِ عَلَيْهِ حِكَايَةُ شَيْءٍ مِمَّا يَسْمَعُهُ مِنْ إِيقَاعٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَغَمٍ، وَكَذَلِكَ إِنْ وُلِدَ فِي فِكْرِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ تَرَنُّمٌ بِهِ ضَرَبَهُ لِسَاعَتِهِ.

الفنّ الأوّل : [في تركيب العود وقسمة الدّساتين]

فلنبدأ الآن في الفنّ الأوّل من الفنون الّتي ذكرنا.

الفنّ الأوّل : القول في تركيب العود

إنّ العيدان لتختلف في كبرها وصغرها وعرضها وعمقها و... ورقّتها و... ورقّة أجزائها بعضها بقياس بعض، وأكثر ما يعرض ذلك ... قبل قلّة حذق صانعها بصناعته، فإذا عرض فيها ما ذكرنا ولّد فيها خلاف الأوتار وفساد النّغم. وأنا واصف صنعة العود على ما وصفت الحكماء الأوّلون الّذين صنوا بصناعة الموسيقى :

فأوّل ذلك أن يكون طوله ستّا وثلاثين اصبعا منضمّة - الأصابع الممتلئة الحسنة اللّحم - ويكون جملة ذلك ثلاثة أشبار؛

وعرضه خمس عشرة اصبعا؛

وعمقه سبع أصابع ونصفا؛

وتكون مسافة عرض المشط مع الفضلة الّتي تبقى وراءه ستّ أصابع؛

وتبقى مسافة الأوتار ثلاثون اصبعا، وعلى هذه الثّلاثين الاصبع تقع القسمة والتّجزئة، لأنّها المسافة المصوّتة.

فلذلك ينبغي أن يكون العرض خمس عشرة اصبعا وهي نصف هذا الطّول؛

وكذلك العمق سبع أصابع ونصفا وهي نصف العرض وربع الطّول؛

ويجب أن يكون العنق ثلث الطّول وهو عشر أصابع؛

ويبقى الجسم المصوّت عشرون اصبعا.

وليكن ظهره على حقيقة الاستدارة، والخرط إلى جهة العنق، كأنّه كان جسما مستديرا خطّ على بركال ثمّ قسّم بنصفين فخرج منه عودان.

أمّا الدّساتين فهي حدود النّغم، ويجب أن تكون أربعتها : ربع الطّول - وهي سبع أصابع ونصف - مساوية لمسافة العمق، ولا يجوز في هاتين المسافتين أن تزيد إحداهما على الأخرى - أعني مسافة عمق العود ومسافة دساتينه - لعلّة أنا ذاكرها ومبيّنها إن شاء اللّه.

اعلم أنّ كلّ شيء عمل منه له معنى، وفعل اتُّخذ، ومن أجله عمل. من ذلك عمق العود وقسمة الدّساتين فإنّ عمق العود إنّما استعمل للدّويّ، وقسمة الدّساتين لتفصيل النّغم وإيضاحها، وقدر حاجة كلّ واحد من هذين المعنيين إلى صاحبه كقدر حاجة صاحبه إليه، وذلك أنّ العمق إن كان أقلّ من مسافة الدّساتين خرجت النّغمة خرساء لضيق مجالها، وكذلك إنا كانت مسافة العمق أكثر من مسافة الدّساتن عظم الدّويّ وصارت النّغم قليلة الفصاحة، لا ينقضي دويّ إحداهنّ لعظمه حتّى تأتي النّغمة الأخرى فتجدّده، فيكون من ذلك الوهن في بيان النّغم وفصاحتها، فوجب لذلك أن تكون هاتان المسافتان متساويتين، ليكون فعلاهما متسايا[.]

[قسمة الدّساتين]

أمّا الدّستان الأوّل الّذي تسميّه الحكماء « المفتاح » فإنّه يلي الأنف وهو الّذي تقع عليه الإصبع السّبّابة، وهو مشترك لجميع الأوتار ولا يقع عليه من الأصابع إلّا السّبّابة فقط، وتركيبه أن يقدّر ثلاث أصابع من هذه الثّلاثين، الّتي هي طول الوتر - ويكون التّقدير من رأس العنق الدّقيق وهو موضع الأنف - فحيث انتهت الأصابع الثّلاث أدير على ذلك الموضع قطعة من بمّ دورين اثنين، ثمّ يربط على ظهر العنق رباطا شديدا لا يتهيّأ له لشدّته أن يزول عن موضعه.

ثمّ يقدّر من هذا الدّستان - إلى ما يلي المشط - اصبعين اثنين، ويشدّ على الموضع قطعة من مثلث على سبيل الدّستان الأوّل وهذا لدستان الوسطى في جميع الأوتار.

ثمّ يقدّر من ذلك اصبع واحد إلى جهة المشط ثمّ يشدّ عليه دستان من مثنى على شرائط الدّساتين اللّذين سلفا.

ثمّ يقدّر من هناك اصبع ونصف ويشدّ على الموضع قطعة من زير على سبيل الدّساتين المتقدّمة، وهذه قسمة الدّساتين، وأنا مبتدي بشرح علل هذه القسمة وموضّح لما صارت كذلك بلا زيادة ولا نقص.

إنّ هذه الآلة ليس فيها شيء إلّا وفيه علّة فلسفيّة : إمّا هندسيّة، وإمّا عدديّة، وإمّا نجوميّة. فأمّا قسمة الدّساتين فإنّ العلّة فيها عدديّة، وذلك أنّه لمّا كان طول الوتر ثلاثين اصبعا كان أقلّ أجزائه المنطوق به لفظة واحدة العشر وهو ثلاث أصابع، فكن موضع نغمة وشدّ هنالك دستان السّبّابة، ولأنّ ما كان أقلّ من العشر - كجزء من إحدى عشرة وجزء من اثنى عشرة وغيرهما من الأجزاء - لا يقال له جزء مطلق معلوم لأنّه لا اسم له، وإنّما الاسم لفظة واحدة كعشر وتسع وثمن إلى أن يبلغ النّصف.

ثمّ طلبوا الجزء الّذي يلي العشر ليشدّ في مكانه دستان فكان التّسع، فلم يجدوا للثّلاثين تسعا، ولم يكن هناك موضع دستان لأنّ الوتر لا ينطق إلّا من موضع جزء من أجزائه فجاوزوه ونظروا أيضا إلى الثّمن معدوم من الثّلاثين، وكان التّسع كذلك فجاوزه. ثمّ طلبوا السّدس - وهو خمسة - فكان موضع النّغم فشدّوا فيه دستان الوسطى وهو على اصبعين من دستان السّبّابة وخمسة من أوّل الوتر.

ثمّ طلبوا الخمس فوجدوه - وهو ستّة - فشدّوا هنالك دستان البنصر. ثمّ نظروا إلى موضع الرّبع الّذي قدّروه لجملة الدّساتين فشدّوا عليه دستان الخنصر.

ولم تجزّأ النّغم هذا الجزء من الوتر - أعني الرّبع - إلّا للعلّة الّتي ذكرناها : من عمق العود وحاجته إلى مساواة النّغم وحاجة النّغم إلى مساواته. ثمّ صيّروا الجزء الّذي بعد الرّبع - وهو الثّلث - حدّ العمق من جسم العود. ثمّ صيّروا الجزء الّذي بعد الثّلث - وهو النّصف - للعرض وهو أعرض موضع يجب أن يكون فيه، ويجب أن يكون موقعه من العود على ثلاث أصابع من نهاية المشط إلى ما يلي الأوتار، والعلّة في ذلك : محاذاته لمضرب الأوتار، وذلك أنّ هذا الموضع من العود أكثره سعة وأكمله دويّا، وإنّما صار مضرب الأوتار على ثلاث أصابع من المشط لأنّه موضع جزء من أجزاء الوتر وهو العشر.

وينبغي أن يكون جسمه في غاية ما يمكن من الرّقّة ويكون ذلك عامّا فيه لجميع أجزائه، حتّى لا يكون في ظهره موضع أرقّ ولا أثخن من موضع وكذلك في بطنه، فإنّ اختلاف أجزائه في الرّقّة والثّخن ممّا يحيله عن استواء الأوتار وائتلاف النّغم.

الفنّ الثّاني : في معرفة الأوتار والنّغم

أَمَّا الأَوْتَارُ فَهْيَ أَرْبَعَةٌ، أَوَّلُهَا البَمُّ وَهْوَ وَتَرٌ مِنْ مَعَاءٍ دَقِيقٍ مُتَسَاوِي الأَجْزَاءٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَوْضِعٌ أَغْلَظُ وَلَا أَدَقُّ مِنْ مَوْضِعٍ، ثُمَّ طُوِيَ حَتَّى صَارَ أَرْبَعَ طَبَقَاتٍ وَفُتِلَ فَتْلًا جَيِّدًا.

وَبَعْدَهُ المَثْلَثُ، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ البَمِّ غَيْرَ أَنَّهُ مِنْ ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ.

وبعد المثنى، وهو أيضا أقلّ من المثلث بطبقة - وهو من طبقتين - غير أنّه من إبريسم، حتّى فتل فصار في قياس الطّبقتين من المعاء في الغلظ.

وبعده الزّير وهو أيضا أقلّ من المثنى بطبقة واحدة - وهي أن يكون من طبقة واحدة - وهو من إبريسم في حال طبقة من طبقات المعاء.

فجعل البمّ أربع طبقات لأنّه أساس لأوائل النّغم وهي النّغم الكبار الخارجة من أوسع موضع في الحنجرة - وهو أصل قصبة الرّئة - ولذلك يجب إذا علّق البمّ في موضعه - الّذي هو أعلى مواضع الأوتار - أن يمدّ ملواه ويترنّم بهذه النّغمة - أعني أوهل نغمة في أصل الحنجرة، ويحرّك البمّ بإبهام اليد اليمنى، فإذا استوى مع تلك النّغمة فأوقفه على ذلك المدّ فإنّها مرتبته في التّسوية. وإنّما جعلته الحكماء على هذه السّبيل من غلظ الجسم ليساوي هذه النّغمة الغليظة في الحنجرة.

ثمّ تتراقى النّغم في الأوتار كتراقيها في الحنجرة نغمة بنغمة حتّى تصير إلى أدقّها في الحنجرة وكذلك إلى أدقّها في الأوتار، ولذلك صار المثلث أقلّ من البمّ في الغلظ لأنّ النّغم إذا تراقت في الحنجرة دقّت واحتاجت من الأوتار إلى نغم دقاق لمقايستها، ولهذه العلّة أيضا صار المثنى أقلّ من المثلث، والزّير أقلّ من المثنى.

فأمّا لم صار المثنى والزّير إبريسم دون البمّ والمثلث ؟ فإنّ لذلك لعلّتين إحداهما : إنّ النّغم إذا تراقت حتّى تصير من الدّقّة إلى مثل حالها في المثنى والزّير احتاجت إلى صفاء طنين الإبريسم [الّذي] إذا مدّ كان أصفى طنينا من المعاء. والعلّة الثّانية أنّ الوتر في هذا الموضع يحتاج من المدّ لتقويم نغمته وتثقيفها إلى ما لا تقوى عليه طبقة واحدة من المعاء الدّقيق ولا طبقتان، فكان الإبريسم إذا صيّر بقياس ذلك المعاء في الغلظ قويّ على ما يحتاج إليه من المدّ دون المعاء.

فإذا مدّ البمّ حتّى يساوي تلك النّغمة الّتي ذكرناها - مطلقا ليس على شيء من الأصابع - فهي تسوية البمّ.

ويشدّ المثلث ويوضع الخنصر على البمّ ويضمّ إلى الخنصر ضمّا شديدا من غير أن يحيد عن الموضع الّذي كان يقابله وهو مطلق إلى إحدى جنبتيه - فيوجب ذلك فساد النّغم - ولتكن الخنصر على أوّل الدّساتين ممّا يلي الدّساتين وباقيها في الفضاء الّذي بين دستان الخنصر والبنصر، ولا يجوز ذلك ولا يتأخّر عنه فإنّها إن جاوزته بشيء ما ولدت في النّغم خرسا، وإن تأخّرت حتّى تقع بين الدّساتين ولّدت صريرا، فهذا الحكم في الطّول والعرض لازم لجميع الأصابع عند تنقّلها على الأوتار في جميع الدّساتين لمن قصد الأمر على حقيقته.

فإذا عُلّق المثلث وكان الخنصر على البمّ - كما بيّنّا - وحرّكا جميعا باصبعي [اليد] اليمنى - السّبّابة والإبهام - حركة واحدة مشتركة في الوترين جميعا [و]كانت نغمتهما واحدة فقد استوى المثلث، وإلّا فزد وأنقص في الملوى حتّى تتساوي النّغمتان.

ثمّ علّق [المثنى حرّكه] باليد اليمنى، وضع الخنصر على المثلث كما فعلت بالبمّ وشدّ ملواه حتّى يساوي المثلث.

ثمّ افعل بالزّير كذلك مع المثنى فإنّها تسوية الزّير أيضا.

فإذا وقعت الأوتار على هذه الحال من الاستواء فإنّه يجب إذا وقعت السّبّابة على المثنى في موقعها ثمّ حرّك مع البمّ مطلقا - تحريكا معا - حركة واحدة أن تكون النّغمتان متساويتين لا في الغلظ والدّقّة ولكن في التّنغيم والمناسبة.

وإذا وضعت السّبّابة على الزّير ثمّ حرّك مع المثلث مطلقا وجب أن تكون النّغمتان متساويتين، كالمثنى مع البمّ، وخنصر المثنى مع وسطى البمّ، وبنصر الزّير مع سبّابة المثلث، وخنصر الزّير مع وسطى المثلث، وهذه التّسوية العظمى التّي يجب أن يكون النّغم فيها على حسب ما ذكرنا من الاتّفاق والمشاكلة، فإنّها إن غادرت ذلك واختلفت منها نغمة فإنّما هو لاختلاف الأوتار عن الحال الّتي يجب أن تكون عليها من الرّقّة والغلظ وغير ذلك من أسبابها أو لزوال الدّساتين عن مواضعها الّتي تجب لها أو لمخالفة الهيئة والتّركيب، أعني الطّول والعرض والعمق والشّكل وسائر ما يستنبط آنفا.

وقد يستنبط الضّرّاب تسويات كثيرة من هذه التّسوية، يريدون بذلك تقوية النّغمة الّتي تكون عليها مقاطع الأصوات ووقفات الضّرب بنغم تشاكلها تساعدها، وأكثر ما يفعلون ذلك في البمّ من بين الأوتار، فإنّه إذا وقعت التّسوية العظمى على ما يجب، حطّوا البمّ حتّى يساوي مطلق المثنى، فكانت هذه عندهم تسوية أخرى.

وكذلك يرفعونه أيضا إلى بنصر المثنى فتكون [تسوية] أخرى، وإلى خنصره فتكون [تسوية] أخرى.

غير أنّ جميع هذه التّسويات ناقصة لأنّ البمّ هو ذو أربع نغمات فصيّروه لنغمة واحدة، وكلّما فعلوه من ذلك وغيره فهو راجع إلى التّسوية العظمى، وما استنبطوه منها فإنّما ذلك معناه يجمّلون به نغمتهم لا غير.

النّغم سبع لا زيادة ولا نقصان، أوّلها مطلق البمّ، والثّانية سبّابة البمّ والثّالثة وسطى البمّ، وهي المؤنّثة، وبنصره وهي المذكّرة، وهذان الدّستانان جميعا لنغمة واحدة في العدد وهي البنصر غير أنّها تجرّب للعلّة الّتي ذكرنا من وجود الخمس والسّدس في الثّلاثين [اصبعا]، فكان موضع السّدس دستان الوسطى، وموضع الخمس دستان البنصر، وليس بينهما من المسافة ما إذا بلغت حركة واحدة بينهما حركة أخرى ظهرت منها نغمة مستقلّة بنفسها بل جزء من نغمة، فوجب لذلك أن تعدّ النّغم في الدّساتين جميعا واحدة.

غير أنّ لها فيهما حال اختلاف كاختلاف التّذكير والتّأنيث، فالوسطى نغمة رطبة ليّنة رخيمة مؤنّثة، والبنصر نغمة يابسة خشنة جزلة مذكّرة، ولربّما اتّبعوا النّغمتين : البنصر بالوسطى في وتر واحد حتّى يقيموا البنصر من الوسطى مقام نغمة واحدة، وإنّما يستعملون ذلك في الصّوت المحزون لا في المطرب، وذلك أنّ الجزء من النّغمة مهين ضعيف لضعف الجزء بقياس الكلّ، واستماعه يولّد الحزن لنقلانه حال النّفس إلى مثل حاله في الضّعف، لأنّ الحزن والضّعف متّفقان متشاكلان وكذلك الفرح والقوّة اللّذان هما ضدّاهما. ألا ترى أنّ المصيبة المفرطة تظهر الدّموع والخشوع والانكسار ؟ وليس ذلك إلّا للضّعف عن عظم المصيبة الواردة، والضّعف في النّفس من الحزن والحزن من الضّعف، وكذلك الفرح من القوّة والقوّة من الفرح.

فلمّا كان هذا الجزء من النّغمة - على ما ذكرنا - من النّقصان والمهانة والضّعف، وكانت حركات الأوتار تنقل النّفس إلى مثل حالها، استعملها المغنّون في الأصوات المحزنة لينقلوا النّفس إلى مثل حالها من الضّعف فيحدث من ذلك الحزن، وقد يستعمل المغنّون أيضا نغمة خارجة من جميع الدّساتين يسمّونها « المحصورة » وهي خارج من دستان الخنصر يمدّون إليها الخنصر، وخلف هذه أيضا - بمثل مسافة دستان الخنصر - نغمة أخرى، غير أنّهم ينقلون السّبابة إلى دستان الوسطى أو البنصر، وكلّما ولّدوه من ذلك فهو نغمة تامّة أو سليمة من الخرس، غير أنّه يتهيّأ لهم في المعنى ألحان ما تحتاج إلى جزء من نغمة، أو نغمة خرساء أو غير ذلك ليحزنوا بذلك أو يطربوا، أو ينقلوا النّفس إلى أيّ الحالات كانت كما قال أفلاطون : النّفس تنكفي مع الموسيقى - أي تأليف الألحان -، فإن كان اللّحن من نغمة ضعيفة ناقصة أو مؤنّثة أَحْزَنَ، وإن كان من نغم قويّة مذكّرة شجّع، وعمل غير ذلك [هو] من التّراكيب المختلطة النّغم الّتي لا غاية لها ولا نهاية، فلذلك استعمل المغنّون في النّغم هذه الزّوائد.

أمّا النّغم التّامّة الكبار المذكورة من الفلاسفة فإنّها سبع نغم : أوّلها مطلق البمّ، والثّانية سبّابة البمّ، والثّالثة وسطى البمّ أو بنصره، والرّابعة خنصر البمّ وهي أيضا مطلق المثلث، والخامسة سبّابة المثلث، والسّادسة وسطى المثلث أو بنصره، والسّابعة خنصر المثلث وهي أيضا مطلق المثنى. وهذه النّغم السّبع الّتي ذكرناها فإنّ لها أيضا سبع [نغم] مكافئة لها ليست لغيرها، بل تقوم مقامها وتفي بها تجري مجراها، وإنّما الفرق بينها في الدّقّة والغلظ، والخفّة والثّقل، والكمال والنّقصان، وأمّا في مذهب التّنغيم وسبيل التّرنّم فليس يضعفها خلاف. وكلّ نغمة من السّبع الأواخر - أعني نغم المثنى والزّير - تنوب عن نظيرتها من السّبع الأوائل - أعني [نغم] المثلث والبمّ - في جميع حركات العود من غناء أو ضرب، وكذلك أيضا تنوب الأوائل عن نظائرها من الأواخر.

فأوّلها مطلق المثنى وهي خنصر المثلث، فإن قال قائل : إنّ هذه نغمة واحدة ليس بين الوترين فيها فرق فكيف تعدّ في السّبع الأوائل ثمّ نعدّها أيضا في السّبع الأواخر ؟ قلنا : ليس هذا بمستنكر بل واجب في القياس في غير معنى من معاني الحكمة، أوّلها صناعة العدد، فإنّ العشرة هو العدد الّذي ليس يعدّه عدد إلّا وهو من تضعيفه أو تضعيف أضعافه أبدا مالا نهاية، وهذا العدد - أعني العشرة - فهو مشترك للعددين جميعا - أعنى الّذي قبله والّذي بعده -، أمّا الّذي قبله فهو تضعيف الآحاد فإنّه له تمام، وأمّا العدد الّذي بعده فهو له ابتداء.

ومثال ذلك أنّك إذا عدد واحد اثنين ثلاثة... حتّى تنتهي إلى العشرة، كانت العشرة تمام هذا العدد، ثمّ تريد المائة الّتي هي تضعيف العشرة - كما أضعفت الواحد فصار عشرة - فتبدأ من العشرة وهي بمنزلة الواحد حتّى تنتهي إلى عشرة العشرات الّتي هي المائة فقد ترى العشرة تماما للمرتبة الأولى من العدد وهو تضعيف الآحاد، وابتداء المرتبة الثّانية وهو تضعيف العشرات.

وكذلك أيضا نغمة مطلق المثنى الّتي هي خنصر المثلث هي تمام النّغم السّبع الأوائل وابتداء النّغم السّبع الأواخر.

وَقَدْ ذَكَرَ جَالِينُوسُ فِي كِتَابِ الحُمَّيَاتِ نَظِيرَ هَذِهِ العِلَّةِ فِي حَمَيَانِ الأَوْدَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُسَمِّى الحُمَّى الَّتِي تَأْخُذُ يَوْمًا وَتَتْرُكُ يَوْمَيْنِ « رُبُعًا » وَكَذَلِكَ يُسَمِّى الَّتِي تَأْخُذُ يَوْمًا وَتَدَعُ يَوْمًا « مَثْلَث » وَذَلِكَ أَنَّهُ يَحْسِبُ أَنَّ اليَوْمَ الَّذِي تَأْخُذُ فِيهِ الحُمَّى مُشْتَرَكٌ لِلدَّوْرَيْنِ جَمِيعًا - أَعْنِي المَاضِيَ وَالمُسْتَقْبَلَ - هُوَ تَمَامُ المَاضِي وَابْتِدَاءُ المُسْتَقْبَلِ. وَفِي هَذَا البَابِ عِلَلٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الحِكْمَةِ وَشَوَاهِدُ قِيَاسِيَّةٌ مِنْ غَيْرِ فَنِّ فُنُونِ الفَلْسَفَةِ، غَيْرَ أَنَّنَا فِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ طَلَبَ عِلَّةَ ذَلِكَ.

فأوّل السّبع الأواخر : مطلق المثنى وتسمّى « النّغمة اليتيمة » لأنّها لا نظير لها بل هي مشتركة في المرتبتين جميعا كما بيّنّا.

والثّانية سبابة المثنى وهي نظير مطلق البمّ.

والثّالثة بنصر المثنى وهي نظير سبّابة البمّ.

الرّابعة خنصر المثنى وهي مطلق الزّير [ونظيرتها] تسمّى وسطى البمّ.

والخامسة سبّابة الزّير وهي [نظير] مطلق المثلث.

والسّادسة بنصر الزّير وهي نظير سبّابة المثلث.

والسّابعة خنصر الزّير وهي نظير وسطى المثلث.

وكذلك أيضا لو علّق وتران آخران أسفل من الزّير على سبيل التّسوية لكانت أيضا هذه النّغم السّبع لا غيرها، وكذلك حكمها من المثنى والزّير كحكم المثنى والزّير من المثلث والبمّ [أي] ينوبان عنهما ويحاذيان نغمتيهما ويقومان مقامهما، غير أنّ ذلك يحبّ قياسا لا فعالا، لأنّ النّغم تصير من شدّة الدّقّة إلى حدّ الخرس، بل قد يمكن أن يعلّق وتر واحد فينطق ببعض ما ذكرنا ثمّ يدلّ القياس على أنّ حكم الوتر الثّاني كحكمه.

وقياس ذلك في الحلق : ألا ترى أنّك إذا حرّكت البمّ مطلقا ثمّ ترنّمت بمثل النّغمة كانت أغلظ النّغم الّتي في الحلق ؟ ثمّ تضع السّبّابة عليه وتترنّم أيضا بمثل النّغمة، ثمّ تضع الوسطى وتترنّم بمثلها، ثمّ لا تزال تتراقى في الأوتار نغمة [فنغمة] وكذلك تتراقى في الحلق نغمة فنغمة حتّى تصير إلى خنصر الزّير ويصير النّغم في الحلق إلى أعلاه وأدقّه ؟

فإن جاز ذلك حتّى يدوم تكرير النّغم السّبع مرّة ثالثة، لم يتهيّأ ذلك لخرس النّغمة من شدّة ما تصير إليه من الدّقّة. فإذا احتيج إلى نغمة بعد خنصر الزّير - الّذي هو تمام السّبع - رجع إلى مطلق المثنى الّذي هو أوّلها فقامت [نغمته] مقام نغمة دقيقة [كما] لو كانت بعدها.

وكذلك هي السّبع النّغم فهي دائرة على نفسها أبدا : الأولى منها بعد السّابعة كالسّابعة بعد السّادسة، والسّادسة بعد الخامسة، وكلّ واحدة من النّغم السّبع الأواخر - أعنى نغم المثنى والزّير - هي في المقدار نصف لنظائرها من السّبع الأوائل - أعني نغم البمّ والمثلث - كذلك الوتران في مقدارهما ما الدّقّة والغلظ.

وقد بيّنّا أنّه يجب أن يكون المثنى والزّير مثل نصف المثلث والبمّ، والمثنى نصف البمّ، والزّير نصف المثنى، فنغمة سبّابة المثنى نصف نغمة مطلق البمّ، وكذلك بنصر المثنى نصف سبّابة المثلث، وعلى هذا المثال - إلى تمام النّغم - كلّ نغمة من النّغم الأواخر نصف لنظيرتها من الأوائل.

والعلّة في ذلك : هندسة الحلق في خلقته، فأوسع مخارج هذه النّغم في الحلق مخرج نغمة مطلق البمّ ومقداره في السّعة ضعف لمقدار نغمة سبّابة المثنى - فكانت ضعفها لهذا السّبب - وكذلك مخرج سبّابة البمّ ضعف لمخرج بنصر المثنى في مقداره وسعته فكانت النّغمة ضعف النّغمة لهذا السّبب، كذلك وسطى البمّ لخنصر المثنى، وجميع مواقع النّغم الكبار لنظائرها من الصّغار، فلهذه العلّة صار المثنى والزّير في غلظهما أنصاف البمّ والمثلث لتساوي الحلق في هندسته، وتكون النّغم مساوية بعضها بعضا في الحلق والآلة معا.

أمّا النّغم السّبع فإنّ لها في أنفسها نسبا مختلفة بعضها إلى بعض يطول الكلام فيها ويغمض المعنى بل لا يتهيّأ لفهم إلّا لمن نظر في كتاب الموسيقى. غير أنّنا نذكر من ذلك نسبة واحدة واضحة وهي نسبة كلّ نغمة إلى الخامسة منها، فإنّها وإن كانت لا تساويها في التّرنّم ولكنّها لها مشاكلة موافقة في النّسبة وهي نسبة كلّ ونصف كلّ، والنّصف هو أعظم أجزاء الشّيء نسبة إليه لأنّه جزء من اثنين، ولذلك صارت هذه النّسب التّي لأجزاء النّغم السّبع.

فأوّل السّبع مطلق البمّ ونسبتها سبّابة المثلث وهي الخامسة منها.

ثمّ سبابة البم ونسبتها بنصر المثلث.

ثمّ وسطى البمّ ونسبتها خنص المثلث

ثمّ مطلق المثلث ونسبتها سبّابة المثنى

ثمّ سبّابة المثلث ونسبتها بنصر المثنى

ثمّ وسطى المثلث ونسبتها خنصر المثنى

ثمّ مطلق المثنى ونسبتها سبّابة الزّير

ثمّ سبّابة المثنى ونسبتها بنصر الزّير

ثمّ [وسطى المثنى] ونسبتها خنصر الزّير

فأوّل ذلك النّغم السبع النّظيرة للكواكب السبعة الجارية أعني زحل والمشتري والمرّيخ والشّمس والزّهرة وعطارد والقمر.

أمّا على الانفراد، فمطلقة البمّ الّتي هي أوّل النّغم وأفخمها، نظيرة لزحل إذ هو أعلى السّبعة وأبطاها سيرا.

وبعدها سبّابة البمّ، نظيرة المشتري إذ كان يتلو زحلا في العلوّ.

وكذلك وسطى البمّ للمرّيخ، وخنصره للشّمس.

وسبّابة المثلث للزّهرة، ووسطاه لعطارد، وخنصره للقمر.

ثمّ صيّروا قياس الاثني عشر برجا للاثنتي عشرة آلة الّتي فيه وهي : أربعة أوتار وأربعة دساتين وأربعة ملاو.

وكذلك ذكروا أنّ الإثنى عشر برجا منها أربعة متقلّبة وأربعة ثابتة وأربعة ذوات جسدين. فقاسوا الأربعة المتقلّبة - وهي الحمل والسّرطان والميزان والجدي - بالأربعة ملاوي الّتي من شأنها الالتواء والانقلاب. وقاسوا الأربعة الثّابتة - وهي الثّور والأسد والعقرب والدّلو - بالأربعة الدّساتين الّتي من شأنها الالتواء والانقلاب. وقاسوا الأربعة ذوات الجسدين - وهي الجوزاء والسّنبلة والقوس والحوت - بالأربعة الأوتار إذ كانت النّغمة السّبع فيها على حالتين، وذلك أنّ كلّ نغمة في كلّ وتر لها نظير في المرتبة الأخرى من النّغم.

وقاسوا بالثّلاثين درجة الّتي في كلّ برج الثّلاثين اصبعا الّتي هي طول الأوتار.

وقاسوا أيضا الاجتماع والمقابلة والتّثليث والتّربيع - الّتي عليها تقع الاحكام والقضايا - بجميع المسافات الّتي ذكرناها في صنعة الآلة. وذهبوا في أنّ [العود] نصف شيء - كما بيّنّا - قبل أن كأنّه كان جسما مستديرا مخروطا شُقّ بنصفين فخرج منه عودان، وقاسوا ذلك [بـ] النّصف المرئي من الفلك، وذلك أنّ الفلك إنّما نرى منه نصفا أبدا في جميع البلدان وكلّ ما بذلك من النّصف الآخر شيء غاب نظيره. وقد ذكر أصحاب الطّبائع أيضا أنّ الأربعة الأوتار نظيرة الأربع الطّبائع، فقاسوا البمّ - إذ كان أغلظها وأجسمها وأكنها - بالأرض، وقياسه من الطّبائع الجزئيّة بالمرّة السّوداء.

وقاسوا المثلث - الّذي هو دون البمّ في الغلظ والجسامة والزّكانة - بالماء، ومن الطّبائع الجزئيّة بالبلغم.

وقاسوا المثنى - الّذي هو دون المثلث في هذه الحالات - بالهواء، ومن الطّبائع الجزئيّة بالدّم.

وقاسوا الزّير- الّذي هو أدقّها وألطفها وأذكاها - بالنّار، ومن الطّبائع الجزئيّة بالمرّة الصّفراء.

الفنّ الثّالث : في رياضة اليدين لذلك

اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ فِي هَذِهِ الآلَةِ مَذْهَبًا لَيْسَ هُوَ لِغَيْرِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي سَائِرِ الأَشْيَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْنَ العَرَبِ وَالرُّومِ وَالفُرْسِ وَالخَزْرِ وَالحَبَشَةِ وَجَمِيعِ النَّاسِ الاخْتِلَافَ فِي خَلْقِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ وَجَمِيعُ مَذَاهِبِهِمْ ؟ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ بُلْدَانِهِمْ وَأَهْوَائِهَا وَمِيَاهِهِمْ وَثِمَارِهَا، وَقَدْ ذَكَرَ المُنَجِّمُونَ أَيْضًا أَنَّ العِلَّةَ هَذَا الاخْتِلَافِ مَطَالِعُ النُّجُومِ وَانْفِرَادِ كُلِّ كَوْكَبٍ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ.

ومذهبهم أيضا في هذه الآلة على هذه السّبيل، وذلك أنّ مذهب الفرس فيها استعمال الخفّة والسّرعة بعد وقوفهم على طرقهم المعلومة عند حذّاقهم - إذ هي لهم شبيهة بالأصول - كالنّسيم والايزن والسفراس والسندان والنيروزي والمهرجاني وغيرها ممّا يطول شرحه ووصفه، ومذهب الرّوم أيضا في الألحان الثّمانية « السطوخسية » الّتي ليس شيء ممّا يترنّم به غناء كان أم غيره - إلّا وهو داخل في أحدها.

وكذلك أيضا مذهب العرب في التّنقّل بالضّرب اللّائق بغنائهم كأصولهم الثّمانية - أعني الثّقيل والخفيف والهزج وغيرها - إذ كان أكثر ما يتغنّون به داخلا فيها.

وكذلك أيضا للسّغد فيها مذهب على سبيل لغتهم وألحانهم، وكذلك التّرك والديلم والخزر وجميع الألسن.

غير أنّ جميع المذاهب الّتي لجميع القوم هي من الألحان الثّمانية الرّوميّة الّتي ذكرناها، وذلك أنّه ليس شيء من المسموعات خارجا عن أحدها أكان ذلك صوت إنسان أو صوت غيره من الحيوان، كصهيل الفرس ونهيق الحمار وصياح الدّيك، وكلّ ما كان خاصّا من صنوف الصّياح لكلّ واحد من الحيوان فإنّه معروف بأيّ لحن من الثّمانية هو فإنّه لا يمكن أن يكون خارجا عن بعضها.

وهو سبيل ومدخل إلى التّعليم والألف للأصابع في التّنقّل على الدّساتين، فإنّ من استعمل ذلك وأحكمه وأسع فيه - قبل أن يقصد إلى التّعليم - أسرع إلى القبول، وسهلت عليه محاكاة الأستاذ ومبلغ حاجته من التّعليم، وكان للأستاذ المطارح أيضا في ذلك أعظم الرّاحة وعليه أقلّ المؤونة.

فأوّل ذلك أن تجسّ الزّير والمثنى بحركة واحدة خفيفة.

ثمّ تضع السّبّابة على الزير سريعا، ثمّ تجسّه مع مطلق المثنى - والجسّ للسّبابة [باليد] اليمثنى وإبهامها، ويكون الخنصر والبنصر منكبّين على بطن العود، والسّبّابة حينئذ تجسّ الزّير إلى فوق، والإبهام يجسّ المثنى إلى أسفل - فيكون الجسّ على ثلاث أصابع من المشط، ويحرّكان هذين الوترين - وهما على هذه الحال - ثلاث حركات متتابعات سريعات.

ثمّ ترفع السّبّابة عن الوتر وتضع الخنصر على المثنى بعد وقفة خفيفة، وتحرّك أيضا المثنى الزّير ثلاث حركات مساويات للحركات الثّلاث الّتي وصفنا.

ثمّ ترفع الخنصر بعد وقفة، وتضع عليه البنصر، وتحرّك حركة واحدة.

ثمّ تردّ الخنصر إلى المثنى بسرعة وتحرّك أيضا حركة واحدة.

ثمّ ترفع أيضا الخنصر وتضع البنصر وتحرّك حركة أخرى.

ثمّ ترفع الخنصر سريعا ويحرّكان أخرى.

ثمّ تنقل السّبّابة إلى الزّير ويتلوها سريعا البنصر، فتحرّك مع مطلق المثنى واحدة.

وتبادر بنقل السّبابة إلى المثنى، ويحرّكان جميعا ثلاث حركات.

ثمّ تضع الخنصر على الزّير وتضع الوسطى على المثنى ويحرّكان جميعا بعد وقفة ثلاث حركات.

وترجع بعد وقفة إلى بنصر الزّير وسبّابة المثنى وتحرّكهما ثلاث حركات.

ثمّ تضع الخنصر على المثنى فتحرّكه مع مطلق الزّير.

ثمّ ترد إلى البنصر فتحرّكه واحدة.

ثمّ ترد إلى الخنصر وتحرّك واحدة أخرى.

ثمّ تضع السّبّابة على المثلث وتحرّك مع مطلق المثنى واحدة.

وتضع الخنصر على المثلث أيضا مع المثنى [وتحرّك] واحدة.

ثمّ ترد السّبابة ويحرّكان واحدة.

ثمّ ترد الخنصر وتحرّك واحدة.

ثمّ تفعل بالمثنى والمثلث زيضا كما فعلت بالزّير والمثنى، وكذلك أيضا بالبمّ [والمثلث]. فإذا فعلت ذلك :

حرّك سبّابة الزّير مع مطلق المثلث ثلاث حركات.

ثمّ خنصر الزّير مع وسطى المثلث ثلاث حركات.

ثمّ بنصر الزّير مع سبّابة المثلث ثلاث حركات.

ثمّ سبّابة الزّير مع مطلق المثلث ثلاث حركات.

ثمّ خنصر المثنى مع مطلق الزّير ثلاث حركات.

ثمّ سبّابة المثنى مع مطلق الزّير حركة واحدة.

ثمّ ترد سريعا خنصر المثنى مع مطلق الزّير [وتحرّك] واحدة.

ثمّ سبّابة المثنى مع مطلق الزّير سريعا.

ثمّ سبّابة المثلث مع مطلق المثنى [حركة] أخرى.

وخنصر المثلث مع مطلق المثنى [حركة] أخرى.

ثمّ ترد إلى سبّابة المثلث [وتحرّكه] حركة واحدة مع مطلق المثنى.

ثمّ ترد أيضا إلى خنصره وتحرّك مع مطلق المثنى [حركة] أخرى.

ثمّ تحرّك المثنى والبمّ على سبيل حركة.

ثمّ المثلث و[المثنى] والزّير [حركة].

وليكن ذلك حتّى تألفه الأصابع وتسرع فيه، فإنّ هذه النّغم الّتي ذكرنا هي المتشاكلة والمتناسبة، وعلى هذا المنهاج يشترك ويتجاوب ويتبع بعضها بعضا في أكثر استعمال هذه الآلة. وفيما ذكرنا من ذلك كفاية لمن أحبّ أن يكون مرتاضا بسرعة القبول.

والتّعليم فنون كثيرة، أعني : عربيّا، وفارسيّا، وروميّا، وغير ذلك، ممّا لو تكلّفنا ذكره وأثبتناه لطال به الكلام وغمض فيه، بل لم يكن يتهيّأ فهمه والعمل به من الكتاب إلّا لأكثر النّاس فهما وأوسعهم ذهنا.

وأيضا إنّ هذه الفنون - أعني فنون التّعليم - موجودة عند أهل هذه الصّناعة، وأخذها عنهم وتعلّمها منهم نظرا وانتقالها أسرع وأقرب إلى الفهم منها من الكتاب.

الفهارس

فهرست شلواح 1979: [176]